من الفلكلور إلى أم كلثوم – أمسية مصرية راقية تجمع العالم تحت أضواء الفن.

غادة الأرناؤوط- مونتريال

في واحدة من أمسيات الشتاء الكندية القاسية، اشتعل دفءٌ مختلف في قلب مونتريال مساء الأحد الفائت الواقع في ٣٠ نوفمبر على مسرح ال St-Denis  . لم يكن دفء الطقس، بل دفء الفن، حين أضاءت ليلة “Odysée en Égypte – رحلة إلى مصر” فضاء المدينة، لتحمل جمهورًا يزيد على خمسمئة شخص في رحلةٍ استثنائية إلى الوطن… إلى رائحة النيل، ولمسات التاريخ، وبهجة التراث.

في تلك الليلة، لم يكن المسرح مجرد مكان للعرض، بل نافذة واسعة انفتحت على مصر من قلب مونتريال.

حضرت مصر بكل مجدها ودفئها وأناقة تراثها، لتكسر المسافات وتستقر في القلوب قبل العيون.

تدفّق الفن كالنيل، مضيئًا القاعة بألوانه وموسيقاه، ليحمل الحضور في رحلة استثنائية أعادت إليهم صورة وطنٍ لا يغيب، مهما ابتعدت الجغرافيا.

كانت الأمسية حدثًا استثنائيًا احتفى بالهوية والحضور، وترك أثرًا سيظل يتردد طويلاً في الذاكرة

افتتاح يربط الشرق بالغرب

انطلقت الأمسية بافتتاح أنيق قدّمته الإعلامية نور صبحي باللغة الفرنسية، في تحية راقية للحضور والضيوف الدبلوماسيين، قبل أن تعرج إلى هدف الحفل وجمال الرؤية الفنية التي تجمعه.

ثم ظهر المخرج أحمد بندق على الخشبة، ليقدّم كلمته بالعربية، كأنما يستدعي نبض مصر إلى المسرح. بصوتٍ يحمل من الشغف ما يكفي ليُمهّد لساعتين من سفرٍ بصري وموسيقي عبر محافظات مصر، تراثًا وروحًا ومشاهد.

كان الافتتاح المزدوج، باللغتين وبالحضور، الجسر الأول بين عالمين: الشرق والغرب… وبين جمهورٍ متنوّع جمعته لحظة واحدة: لحظة الفن.

حضور دبلوماسي لافت… والاهتمام الدولي بمصر

ازدانت القاعة بحضور كبير من الدبلوماسيين وسفراء دول متعددة، ما أضفى على الأمسية طابعًا رسميًا عالميًا يعكس مكانة مصر الثقافية والفنية. كان مشهد القاعة يعبر عن شيء واحد: الفن المصري لا يخاطب جمهوره فقط، بل يخاطب العالم كله

قدّم القنصل المصري، السفير نبيل مكي، كلمة ترحيبية عبّر فيها عن تقديره للفكرة ودعمها. كما ألقى الملحق الثقافي دكتور أحمد جابر كلمته، مؤكدًا فخره بما شاهد، واعتزازه بجهود المؤسسات القائمة على المشروع.

أما البروفيسور هاني متري فقد عبّر عن سعادته “التي لا توصف”، وبفخره بأبناء الوطن الذين تطوّعوا لإظهار جمال مصر أمام العالم

مقطوعة موسيقية تم تأليفها خصيصاً من أجل هذه الليلة

من أجمل لحظات الحفل، العرض الأول للمقطوعة الموسيقية التي ألّفها خصيصًا للحدث الموسيقار تامر حنا.

قُدّمت المقطوعة عبر فيديو أعدّه وأخرجه أحمد بندق، حمل صورًا نابضة لمصر: المتحف المصري الكبير، معالم الحضارة القديمة، ورؤى حديثة للسياحة.

كان الفيديو رسالة حب من بعيد… وكأن مصر نفسها حضرت لتصافح أبناءها في تلك الليلة.

لم يكن هذا الحدث ثمرة جهد فردي، بل لوحة كاملة رسمتها أيادٍ كثيرة اجتمعت على الشغف ذاته. تقدّمت ميراى واصف بصفتها المدير التنفيذي للمشروع، يساندها في الإدارة المالية رامي أمين، فيما تولّت الإعلامية نور صبحي إدارة العلاقات العامة والاتصالات بحضورها المهني الأنيق. وعلى الجانب الفني، أشرف أحمد بندق على تصميم الفيديوهات والمونتاج، بينما أدارت المايسترو ماهي محمود المسرح بإحكام وحسّ موسيقي رفيع، وتألّق تامر حنا بتأليف المقطوعة الموسيقية الخاصة بالحفل.

وقدّمت رشا إبراهيم ومي الأتربي خبرتهما في تدريب وتصميم الرقصات الفلكلورية، لتخرج اللوحات الراقصة نابضة بالحياة. ووقف خلف المشهد أيضًا أعضاء الفريق: كلوديا، مريم، وميرنا، إلى جانب كورال مكوّن من غادة الشعبي، ياسمين، ماجي، وإيمان… جميعهم كانوا قلبًا واحدًا وروحًا واحدة، ينسجون معًا تفاصيل أمسية لا تُنسى

لوحات فلكلورية تحمل روح المحافظات

تخلل الحفل لوحات راقصة من الفلكلور المصري، تنقّل الجمهور معها من محافظة إلى أخرى؛ من الصعيد إلى الدلتا، ومن الإسكندرية إلى النوبة. كل لوحة جاءت بتفاصيلها الخاصة: الحركة، الإيقاع، الأزياء، واللون… حتى بدا المكان وكأنه رحلة داخل مصر نفسها

سينوغرافيا… حين تتكلّم الألوان وتتنفّس الصور

لم تكن السينوغرافيا مجرد خلفية بصرية، بل كانت شريكًا أساسيًا في صياغة جمال تلك الليلة.

تمازجت الألوان على الخشبة كما لو أنها ترسم لوحة حيّة تتحرك مع كل نغمة وكل لحظة.

أضواء بنفسجية وزرقاء وذهبية تلتفّ حول الراقصين والعازفين، تتبدّل بدفء وإيقاع محسوب، لتُكمل الجملة الموسيقية وتُبرز تفاصيل الأداء.

وعلى الشاشة العملاقة، تعانقت صور التراث المصري مع تصميمات فنية حديثة؛

من نقوش فرعونية تتوهّج باللونين الأحمر والذهبي،

إلى لقطات لأم كلثوم ترتسم كظلالٍ من نورٍ وذاكرة، كما يظهر في إحدى اللحظات المهيبة التي وقف فيها الجمهور يستمع لصوت يخرج من القلب.

كان هذا التداخل بين الضوء والصورة والموسيقى يخلق عالمًا بصريًا كاملًا، يجعل المشاهد يشعر أنه يتحرك داخل حكاية، لا يُشاهدها فقط.

كل تفصيلة ضوئية، كل لون ينبض، كل مشهد بصري كان يُعيد تشكيل رحلة تمتد من زمن الفراعنة… حتى مصر الحديثة التي لا تزال تُبهر كل من يقترب من فنّها.

بهذا الامتزاج الأخّاذ، تحوّلت السينوغرافيا إلى لغة تعبّر عن مصر بطريقتها؛

حارة حين يتطلب الأمر شغفًا،

هادئة حين يعلو صوت الطرب،

ومضيئة حين تعلن مصر حضورها.

تكريم أم كلثوم… صوت لا يشيخ

وفي الجزء الثاني من السهرة، جاء تكريم كوكب الشرق أم كلثوم.

بصوت الفنانة رانيا حسين، ومع أوركسترا نغم الشرق التي أبدعت حضورًا وأداءً، عاد زمنٌ بعيد ليستقر في القاعة كأنه لم يمضِ.

كان الغناء أقرب إلى صلاة فنية… يتشاركها الجميع بلا كلمات

جوائز وتكريم… احتفاءٌ بالإنجاز

ضمن فقرات الحفل، تم توزيع عدة جوائز، في مبادرة جسّدت تقدير الحاضرين للتميّز الفني والثقافي.

وكان من أبرز اللحظات تكريم الأستاذ عادل اسكندر، الذي نال تقديرًا خاصًا نظير مساهماته ودوره في دعم الفنون والثقافة

في الختام… حين وقفت مصر بكامل حضورها على المسرح

لكن اللحظة التي لن تُنسى كانت عند الختام.

فعندما صدح صوت ماهي محمود بأغنية “يا أغلى اسم في الوجود”، تغيّر كل شيء في القاعة.

لم تعد الأمسية عرضًا فنيًا فحسب، بل تحوّلت إلى لحظة انتماءٍ جماعي… لحظة اجتمع فيها المصريون وغير المصريين على محبة بلد واحد: مصر.

ارتفعت النبرات الدافئة من صوتها كأنها نداءٌ بعيد يأتي من ضفاف النيل.

تهتزّ معه القلوب، وتنفتح الذاكرة على صور الوطن، وتخفق المشاعر بخفة وصدق.

كان الأداء مدهشًا، قويًا، حقيقيًا… حتى أنّ البعض وقف دون وعي وصفّق مطوّلًا وكأنهم أمام مصر نفسها، لا أمام خشبة مسرح في مونتريال

أمسية… من تلك التي لا تتكرر

لم تكن الليلة مجرد عرض، بل تجربة مكتملة حُفرت في الذاكرة.

حفل جمع الفن بالمحبة، والحضور العالمي بالروح المصرية، والطرب بالسينوغرافيا، ليعلن بكل ثقة أنّ مصر ما تزال أم الدنيا… وفنّها يظلّ بابًا مشرعًا على الجمال.