الغاية من هذه المقالة ليست تقديم دراسة أكاديمية عن التطورات الكبرى التي حصلت في مجال تكنولوجيا الإتصالات، ولكني أود فقط أن اتحدث باختصار عن خبرتي الشخصية في هذا المجال خلال عملي الدبلوماسي لمدة أربعة عقود من الزمن، منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي حتى أواخر السنوات العشر الأولى من هذا القرن.
معروف أن عمل الدبلوماسيين يقضي بشرح مواقف بلدهم للمسؤولين في الدولة المضيفة في شتى المجالات، ورعاية شؤون مواطني دولتهم من النواحي الإدارية مثل إصدار وتجديد جوازات السفر لهم، وتأمين الأمور القنصلية مثل تسجيل وقوعات الأحوال الشخصية وإعداد الوكالات وغير ذلك من المسائل القنصلية، وكذلك القيام بكل ما يمكن القيام به لتعزيز العلاقات السياسية والإقتصادية والتجارية والثقافية بين دولتهم والدولة المضيفة، ورصد مختلف التطورات الحاصلة داخل الدولة المضيفة ومن ثم إبلاغ دولتهم، عبر وزارة الخارجية، بكل هذه الأمور.
التقارير العادية الروتينية وغير المستعجلة تحال الى وزارة الخارجية بالحقيبة الدبلوماسية بصورة دورية غالبا ما تكون أسبوعية، أما الأمور المستعجلة، فينبغي إرسالها دون تأخير، وهذا ما سأعرضه هنا.
في مطلع السبعينيات، بدأت عملي الدبلوماسي في سفارة لبنان في لاغوس التي كانت عاصمة نيجيريا في ذلك الوقت. كل اجتماع كان يحصل بين رئيس البعثة السفير حسين العبدالله مع أحد كبار المسؤولين النيجيريين أو كل أمر مهم كان يطرأ على الساحة النيجيرية كان ينبغي إبلاغ الخارجية اللبنانية به بالسرعة الممكنة.
في تلك الفترة، كانت البرقيات هي الوسيلة الأسرع لإبلاغ بيروت بالمعلومات المطلوبة، فكنت أكتب مسودة نص البرقية على ورقة وأعطيها للسكرتيرة لتطبعها على “الدكتيلو” ثم أعرضها على السفير ليوافق عليها ويدخل ما يشاء من التعديلات. بعد ذلك، كنت أحول النص العربي الى الأحرف اللاتينية وفق قواعد ورموز تستعملها وزارة الخارجية، وأعطي النص الى السكرتيرة لتطبعه بالأحرف اللاتينية، ثم أسلم النص مع بعض النقود الى ساعي السفارة الذي كان يأخذه الى مبنى البريد لإرساله بشكل برقية الى لبنان. جدير بالتوضيح هنا أن الإتصالات البرقية بواسطة البريد كان عمرها في ذلك الوقت أكثر من مائة سنة.
أما للإتصال بواسطة الهاتف والتحدث مع أي كان خارج نيجيريا، فكان يقتضي الأتصال بإدارة الهاتف (السنترال) والإنتظار الى أن يرد أحد الموظفين، ومن ثم نعطيه اسم البلد والرقم الذي نريد الإتصال به ونقفل الخط وننتظر ربع ساعة أو أكثر الى أن يكلمنا موظف البريد ويؤمن لنا الإتصال المطلوب. هكذا كان الوضع منذ حوالى خمسين سنة. وقد بقيت الإتصالات الهاتفية على هذه الحال الى أن انتقلت الى القنصلية العامة في مونتريال عام 1977 ، وبعد فترة قصيرة من عملي في هذه المدينة الجذابة، أصبح من الممكن الإتصال هاتفيا مباشرة بلبنان دون المرور عبر السنترال!
بعد بضع سنوات من ذلك، عينتني وزارة الخارجية نائبا لرئيس البعثة في تونس التي كانت جامعة الدول العربية انتقلت اليها من القاهرة بعد قطيعة الدول لمصر بسبب اتفاقات كامب دايفيد. في تلك الفترة، كانت تكنولوجيا الإتصالات قد تطورت وحل “التلكس” محل البرقيات، وهو كان عبارة عن جهاز كبير يشبه الى حد ما ماكنة الخياطة بحجمه وشكله، وكنا في حينه، وبعد طباعة البرقية باللغة اللاتينية، نكلف الموظف المختص طباعة النص على جهاز التلكس الذي كان يشمل شريطا ممغنطا بحيث أن كل حرف يطبع كان يحدث ثقبا في الشريط الطويل، وبعد الإنتهاء من الطباعة، كان الشريط يوضع في مكان معين من الجهاز وبعد طباعة الرقم الذي نود إرسال التلكس اليه، كان الشريط يعبر طريقه داخل الجهاز وكل ثقب فيه كان يمثل حرفا يظهر في تلكس الجهة المتلقية. لا حاجة بعد ذلك لإرسال البرقيات الى مبنى البريد إذ أن الإتصال أصبح يتم من داخل السفارة.
بعد ان انتقلت من تونس الى السفارة اللبنانية في الفاتيكان في روما، وفي منتصف العام 1985، دخل السفير غازي شدياق المكتب في أحد الأيام بعد عودته من زيارة الى لبنان وما لبث أن لحقه سائق السفارة وهو يحمل صندوقا كبيرا. بعد فتح الصندوق، أخبرني السفير أن هذا الجهاز الجديد اسمه “فاكس” وهو بمثابة جهاز نسخ المستندات (فوتوكوبي) عن بعد، أي أننا نضع المستند الذي نود إرساله (البرقية أو أي مستند ورقي آخر) ونطبع رقم الجهة التي نود أرسال المستند اليها في اي بلد، وهذا المستند يظهر مطبوعا في جهاز الفاكس عند الجهة المستلمة. فودعنا بعد ذلك التلكس وشريطه الطويل الممغنط وأصبح بإمكاننا إرسال أي مستند من السفارة بأقل من دقيقة واحدة.
أثناء عملي في السفارة في واشنطن مع بداية التسعينيات، وبعد أن جهز السفير اللبناني نسيب لحود السفارة بأجهزة الحاسوب، قرر وصل هذه الأجهزة بشبكة الإنترنت، فكان ذلك تطورا نوعيا هاما في طريقة الإتصال، ليس فقط مع وزارة الخارجية، بل مع أي شخص في العالم، وبسرعة فائقة. بعد ذلك، وضعنا جهاز التلكس في مستودع السفارة، واستمريت في استعمال هذه الوسيلة الحديثة بعد ان عملت سفيرا للبنان في التشيلي وبعدها في بولاندا وأخيرا في كندا، حيث تقاعدت من الوظيفة في أواخر العام 2009.
كل هذه التطورات التكنولوجية حصلت بسرعة كبرى في خلال السنوات الأربعين من عملي في السلك الدبلوماسي. وبعد تقاعدي، تسارعت أكثر وأكثر التطورات في تكنولوجيا الإتصالات، فظهرت وسائل التواصل الإجتماعي المتعددة والمتنوعة التي هي الآن أسرع وسيلة للاتصال بين البشر.
مسعود معلوف واشنطن في أول حزيران 2023
سفير متقاعد
Discussion about this post